معهد الخوئي | Al-Khoei Institute

معهد الخوئي | Al-Khoei Institute
  • الإمام الخوئي
  • المكتبة المرئية
  • المكتبة الصوتية
  • المكتبة
  • الاستفتاءات

1- صيانة القرآن الكريم من التحريف

  • ١٩٧٣٧

صيانة القرآن من التحريف


 


* وقوع التحريف المعنوي في القرآن باتفاق المسلمين.
* التحريف الذي لم يقع في القرآن بلا خلاف.
* التحريف الذي وقع فيه الخلاف.
* تصريحات أعلام الإمامية بعدم التحريف كجزء من معتقداتهم.
* نسخ التلاوة مذهب مشهور بين علماء أهل السنة.
* كلمات مشاهير الصحابة في وقوع التحريف.
* القول بنسخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف.
* الأدلة الخمسة على نفي التحريف.
* شبهات القائلين بالتحريف.


ــ[197]ــ


يحسن بنا - قبل الخوض في صميم الموضوع - أن نقدم أمام البحث أمورا لها صلة بالمقصود، لا يستغنى عنها في تحقيق الحال وتوضيحها.
1 ـ معنى التحريف:
يطلق لفظ التحريف ويراد منه عدة معان على سبيل الاشتراك، فبعض منها واقع في القرآن باتفاق من المسلمين، وبعض منها لم يقع فيه باتفاق منهم أيضا، وبعض منها وقع الخلاف بينهم. وإليك تفصيل ذلك (1):
الأول: "نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره" ومنه قوله تعالى:
{من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه} (4: 46).
ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب الله، فإن كل من فسر القرآن بغير حقيقته، وحمله على غير معناه فقد حرفه. وترى كثيرا من أهل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التعليقة رقم (6) تقديم دار التقريب لهذا البحت في قسم التعليقات. (المؤلف).


ــ[198]ــ


البدع والمذاهبالفاسدة قد حرفوا القرآن بتأويلهم آياته على آرائهم وأهوائهم.
وقد ورد المنع عن التحريف بهذا المعنى، وذم فاعله في عدة من الروايات. منها رواية الكافي بإسناده عن الباقر (عليه السلام) أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير:
"وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية..."(2).
الثاني: "النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات، مع حفظ القرآن وعدم ضياعه، وإن لم يكن متميزا في الخارج عن غيره".
والتحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعا، فقد أثبتنا لك فيما تقدم عدم تواتر القراءات، ومعنى هذا أن القرآن المنزل إنما هو مطابق لإحدى القراءات، وأما غيرها فهو إما زيادة في القرآن وإما نقيصة فيه.
الثالث: "النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين، مع التحفظ على نفس القرآن المنزل".
والتحريف بهذا المعنى قد وقع في صدر الإسلام، وفي زمان الصحابة قطعا، ويدلنا على ذلك إجماع المسلمين على أن عثمان أحرق جملة من المصاحف وأمر ولاته بحرق كل مصحف غير ما جمعه، وهذا يدل على أن هذه المصاحف كانت مخالفة لما جمعه، وإلا لم يكن هناك سبب موجب لإحراقها، وقد ضبط جماعة من العلماء موارد الاختلاف بين المصاحف، منهم عبدالله بن أبي داود السجستاني، وقد سمى كتابه هذا بكتاب المصاحف. وعلى ذلك فالتحريف واقع لا محالة إما من عثمان أو من كتاب
ــــــــــــــــــــــــــــ
(2) الكافي: 8 / 53، رقم الحديث: 16.
 


ــ[199]ــ


تلك المصاحف، ولكنا سنبين بعد هذا إن شاء الله تعالى أن ما جمعه عثمان كان هو القرآن المعروف بين المسلمين، الذي تداولوه عن النبي (صلى الله عليه وآله) يدا بيد. فالتحريف بالزيادة والنقيصة إنما وقع في تلك المصاحف التي انقطعت بعد عهد عثمان، وأما القرآن الموجود فليس فيه زيادة ولا نقيصة.
وجملة القول: إن من يقول بعدم تواتر تلك المصاحف -كما هو الصحيح - فالتحريف بهذا المعنى وإن كان قد وقع عنده في الصدر الأول إلا أنه قد انقطع في زمان عثمان، وانحصر المصحف بما ثبت تواتره عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأما القائل بتواتر المصاحف بأجمعها، فلا بد له من الالتزام بوقوع التحريف بالمعنى المتنازع فيه في القرآن المنزل، وبضياع شيء منه. وقد مر عليك تصريح الطبري، وجماعة آخرين بالغاء عثمان للحروف الستة التي نزل بها القرآن، واقتصاره على حرف واحد(1).
الرابع: "التحريف بالزيادة والنقيصة في الآية والسورة مع التحفظ على القرآن المنزل، والتسالم على قراءة النبي (صلى الله عليه وآله) إياها".
والتحريف بهذا المعنى أيضا واقع في القرآن قطعا. فالبسملة - مثلا – مما تسالم المسلمون على أن النبي (صلى الله عليه وآله) قرأها قبل كل سورة غير سورة التوبة وقد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنة، فاختار جمع منهم أنها ليست من القرآن، بل ذهبت المالكية إلى كراهة الإتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة، إلا إذا نوى به المصلي الخروج من الخلاف، وذهب جماعة أخرى إلى أن البسملة من القرآن.
وأما الشيعة فهم متسالمون على جزئية البسلمة من كل سورة غير سورة التوبة، واختار هذا القول جماعة من علماء السنة أيضا - وستعرف  تفصيل ذلك عند تفسيرنا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع ص 80 من هذا الكتاب.


ــ[200]ــ


سورة الفاتحة - وإذن فالقرآن المنزل من السماء قد وقع فيه التحريف يقينا، بالزيادة أو بالنقيصة.
الخامس: "التحريف بالزيادة بمعنى أن بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل".
والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين، بل هو مما علم بطلانه بالضرورة.
السادس: "التحريف بالنقيصة، بمعنى أن المصحف الذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء، فقد ضاع بعضه على الناس".
والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف فأثبته قوم ونفاه آخرون.
2 ـ رأي المسلمين في التحريف:
المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن، وأن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وقد صرح بذلك كثير من الأعلام. منهم رئيس المحدثين الصدوق محمد بن بابويه، وقد عد القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية. ومنهم شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، وصرح بذلك في أول تفسيره "التبيان" ونقل القول بذلك أيضا عن شيخه علم الهدى السيد المرتضى، واستدلاله على ذلك بأتم دليل. ومنهم المفسر الشهير الطبرسي في مقدمة تفسيره "مجمع البيان"، ومنهم شيخ الفقهاء الشيخ جعفر في بحث القرآن من كتابه "كشف الغطاء" وادعى الإجماع على ذلك. ومنهم العلامة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه "العروة الوثقى" ونسب القول بعدم التحريف إلى جمهور المجتهدين. ومنهم المحدث الشهير المولى محسن القاساني في كتابيه (1). ومنهم بطل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوافي: 5/ 274، وعلم اليقين: ص 130.


ــ[201]ــ


العلم المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي في مقدمة تفسيره "آلاء الرحمن".
وقد نسب جماعة القول بعدم التحريف إلى كثير من الأعاظم. منهم شيخ المشايخ المفيد، والمتبحر الجامع الشيخ البهائي، والمحقق القاضي نور الله، وأضرابهم. وممن يظهر منه القول بعدم التحريف: كل من كتب في الإمامة من علماء الشيعة وذكر فيه المثالب، ولم يتعرض للتحريف، فلو كان هؤلاء قائلين بالتحريف لكان ذلك أولى بالذكر من إحراق المصحف وغيره.
وجملة القول: أن المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف. نعم ذهب جماعة من المحدثين من الشيعة، وجمع من علماء أهل السنة إلى وقوع التحريف. قال الرافعي: فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن والتأويل، واستخراج الأساليب الجدلية من كل حكم وكل قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء، حملا على ما وصفوه من كيفية جمعه (1) وقد نسب الطبرسي في "مجمع البيان" هذا القول إلى الحشوية من العامة.
أقول: سيظهر لك - بعيد هذا - أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف، وعليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة - عند علماء أهل السنة - يستلزم اشتهار القول بالتحريف.
3 ـ نسخ التلاوة:
ذكر أكثر علماء أهل السنة: أن بعض القرآن قد نسخت تلاوته، وحملوا على ذلك ما ورد في الروايات أنه كان قرآنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيحسن بنا أن نذكر جملة من هذه الروايات، ليتبين أن الالتزام بصحة هذه الروايات التزام بوقوع التحريف في القرآن:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إعجاز القرآن: ص 41.


ــ[202]ــ


1 ـ روى ابن عباس أن عمر قال فيما قال، وهو على المنبر:
"إن الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها. فلذا رجم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال… ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ، من كتاب الله: أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو: "إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم …" (1).
وذكر السيوطي: أخرج ابن اشته في المصاحف عن الليث بن سعد. قال: "أول من جمع القرآن أبوبكر، وكتبه زيد… وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها، لأنه كان وحده (2).
أقول: وآية الرجم التي ادعى عمر أنها من القرآن، ولم تقبل منه رويت بوجوه: منها: "إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، نكالا من الله، والله عزيز حكيم". ومنها: "الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة". ومنها: "إن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وكيف كان فليس في القرآن الموجود ما يستفاد منه حكم الرجم. فلو صحت الرواية فقد سقطت آية من القرآن لا محالة.
2 ـ وأخرج الطبراني بسند موثق عن عمر بن الخطاب مرفوعا:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري: كتاب الحدود، رقم الحديث: 6327، و6328 وصحيح مسلم: كتاب الحدود، رقم الحديث: 3201، وسنن الترمذي: كتاب الحدود، رقم الحديث: 1352، و سنن أبي داود: كتاب الحدود، رقم الحديث: 3835. وسنن ابن ماجة: كتاب الحدود، رقم الحديث: 2534. ومسند احمد: مسند العشرة المبشرة بالجنة، رقم الحديث: 192.
(2) الاتقان: 1 / 101.


ــ[203]ــ


"القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف "(1). بينما القرآن الذي بين أيدينا لا يبلغ ثلث هذا المقدار، وعليه فقد سقط من القرآن أكثر من ثلثيه.
3 ـ وروى ابن عباس عن عمر أنه قال:
"إن الله عز وجل بعث محمدا بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان مما أنزل إليه آية الرجم، فرجم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجمنا بعده، ثم قال: كنا نقرأ: "ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم"، أو: "إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم"(2).
4 ـ وروى نافع أن ابن عمر قال:
"ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله؟ قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر"(3).
5 ـ وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت:
"كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن"(4).
6 ـ وروت حميدة بنت أبي يونس. قالت:
"قرأ علي أبي - وهو ابن ثمانين سنة - في مصحف عائشة: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما، وعلى الذين يصلون الصفوف الأوَل. قالت: قبل أن يغير عثمان المصاحف"(5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) 1لإتقان: 1 / 121.
(2) سنن الترمذي: كتاب الحدود، رقم الحديث: 1352. ومسند احمد: مسند العشرة المبشرين بالجنة، رقم الحديث: 313.
(3) الإتقان: 2 / 40 - 41.
(4) نفس المصدر: 2 / 40 - 41.
(5) الإتقان: 2 / 40 – 41.


ــ[204]ــ


7 ـ وروى أبو حرب ابن الأسود عن أبيه. قال:
"بعث أبو موس الأشعري إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل. قد قرؤوا القرآن. فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب العرب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فانسيتها، غير أني قد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فانسيتها، غير أني حفظت منها: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة "(1).
8 ـ وروى زر. قال: قال أبي بن كعب يا زر:
"كأين تقرأ سورة الأحزاب قلت: ثلاث وسبعين آية. قال: إن كانت لتضاهي سورة البقرة، أو هي أطول من سورة البقرة..."(2).
9 ـ وروى ابن أبي داود وابن الانباري عن ابن شهاب قال:
"بلغنا أنه كان أنزل قران كثير، فقتل علماؤه يوم اليمامة، الذين كانوا قد وعوه، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب…"(3).
10 ـ وروى عمرة عن عائشة أنها قالت:
"كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بـ : خمس
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم: 3 / 100، كتاب الزكاة، رقم الحديث: 1740.
(2) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد: 2 / 43.
(3) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد: 2 / 50.


ــ[205]ــ


معلومات، فتوفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهن فيما يقرأ من القرآن "(1).
11 ـ وروى المسور بن مخرمة. قال:
"قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: ألم تجد فيما انزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة. فانا لا نجدها. قال: سقطت فيما اسقط من القرآن"(2).
12 ـ وروى أبوسفيان الكلاعي: أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم:
"أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف، فلم يخبروه، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال ابن مسلمة: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا ابشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)"(3).
وقد نقل بطرق عديدة عن ثبوت سورتي الخلع والحفد في مصحف ابن عباس وأبي بن كعب: (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق).
وغير ذلك مما لا يهمنا استقصاؤه (4).
وغير خفي أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف والاسقاط.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم: 2 / 167، كتاب الرضاع، رقم الحديث: 2634.
(2) الاتقان: 2 / 42.
(3) نفس المصدر السابق.
(4) الاتقان: 1 / 122 - 213.


ــ[206]ــ


وبيان ذلك: أن نسخ التلاوة هذا إما أن يكون قد وقع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإما أن يكون ممن تصدى للزعامة من بعده، فإن أراد القائلون بالنسخ وقوعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو أمر يحتاج إلى الإثبات. وقد اتفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، وقد صرح بذلك جماعة في كتب الأصول وغيرها (1) بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه، وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، بل إن جماعة ممن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة منع وقوعه(2). وعلى ذلك فكيف تصح نسبة النسخ إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بأخبار هؤلاء الرواة؟ مع أن نسبة النسخ إلى النبي (صلى الله عليه وآله) تنافي جملة من الروايات التي تضمنت أن الاسقاط قد وقع بعده. وإن أرادوا أن النسخ قد وقع من الذين تصدوا للزعامة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) فهو عين القول بالتحريف. وعلى ذلك فيمكن أن يدعى أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة، لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة. سواء أنسخ الحكم أم لم ينسخ، بل تردد الأصوليون منهم في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته، وفي جواز أن يمسه المحدث. واختار بعضهم عدم الجواز. نعم ذهبت طائفة من المعتزلة إلى عدم جواز نسخ التلاوة(3).
ومن العجيب أن جماعة من علماء أهل السنة أنكروا نسبة القول بالتحريف إلى أحد من علمائهم، حتى أن الالوسي كذب الطبرسي في نسبة القول بالتحريف إلى الحشوية، وقال: "إن أحدا من علماء أهل السنة لم يذهب إلى ذلك".
وأعجب من ذلك أنه ذكر أن قول الطبرسي بعدم التحريف نشأ من ظهور فساد
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الموافقات لأبي اسحاق الشاطبي: 3 / 106 طبعة المطبعة الرحمانية بمصر.
(2) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 3 / 217.
(3) نفس المصدر: 3/ 201 – 203.


ــ[207]ــ


قول أصحابه بالتحريف، فالتجأ هو إلى إنكاره(1).
مع انك قد عرفت أن القول بعدم التحريف هو المشهور بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم، حتى أن الطبرسي قد نقل كلام السيد المرتضى بطوله، واستدلاله على بطلان القول بالتحريف بأتم بيان وأقوى حجة(2).
التحريف والكتاب:
والحق بعد هذا كله أن التحريف "بالمعنى الذي وقع النزاع فيه" غير واقع في القرآن أصلا بالأدلة التالية:
الدليل الأول - قوله تعالى:
{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}(15: 9).
فإن في هذه الآية دلالة على حفظ القرآن من التحريف، وأن الأيدي الجائرة لن تتمكن من التلاعب فيه.
والقائلون بالتحريف قد أولوا هذه الآية الشريفة، وذكروا في تأويلها وجوها:
الأول: "أن الذكر هو الرسول" فقد ورد استعمال الذكر فيه في قوله تعالى:
{قد أنزل الله إليكم ذكرا 65: 10. رسولا يتلوا عليكم آيات الله: 11}.
وهذا الوجه بين الفساد: لأن المراد بالذكر هو القرآن في كلتا الآيتين بقرينة التعبير "بالتنزيل والإنزال" ولو كان المراد هو الرسول لكان المناسب أن يأتي بلفظ "الإرسال" أو بما يقاربه في المعنى، على ان هذا الاحتمال إذا تم في الآية الثانية فلا يتم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع روح المعاني: 1 / 24.
(2) مجمع البيان: 1 / 15، المقدمة.


ــ[208]ــ


في آية الحفظ، فإنها مسبوقة بقوله تعالى:
{وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون}
(15: 6).
ولا شبهة في أن المراد بالذكر في هذه الآية هو القرآن، فتكون قرينة على أن المراد من الذكر في آية الحفظ هو القرآن أيضا.
الثاني: "أن يراد من حفظ القرآن صيانته عن القدح فيه، وعن إبطال ما يتضمنه من المعاني العالية، والتعاليم الجليلة".
وهذا الاحتمال أبين فسادا من الأول: لأن صيانته عن القدح إن أريد بها حفظه من قدح الكفار والمعاندين فلا ريب في بطلان ذلك، لأن قدح هؤلاء في القرآن فوق حد الاحصاء. وإن أريد أن القرآن رصين المعاني، قوي الاستدلال مستقيم الطريقة، وأنه لهذه الجهات ونحوها أرفع مقاما من أن يصل إليه قدح القادحين، وريب المرتابين فهو صحيح ولكن هذا ليس من الحفظ بعد التنزيل كما تقوله الآية، لأن القرآن بما له من الميزات حافظ لنفسه، وليس محتاجا إلى حافظ آخر، وهو غير مفاد الآية الكريمة، لأنها تضمنت حفظه بعد التنزيل.
الثالث: "أن الآية دلت على حفظ القرآن في الجملة، ولم تدل على حفظ كل فرد من أفراد القرآن، فان هذا غير مراد من الآية بالضرورة وإذا كان المراد حفظه في الجملة، كفى في ذلك حفظه عند الإمام الغائب (عليه السلام).
وهذا الاحتمال أوهن الاحتمالات: لأن حفظ القرآن يجب أن يكون عند من انزل إليهم وهم عامة البشر، أما حفظه عند الإمام (عليه السلام) فهو نظير حفظه في اللوح المحفوظ، أو عند ملك من الملائكة، وهو معنى تافه يشبه قول القائل: إني أرسلت إليك بهدية وأنا حافظ لها عندي، أو عند بعض خاصتي.


ــ[209]ــ


ومن الغريب قول هذا القائل إن المراد في الآية حفظ القرآن في الجملة، لا حفظ كل فرد من أفراده، فكأنه توهم أن المراد بالذكر هو القرآن المكتوب، أو الملفوظ لتكون له أفراد كثيرة، ومن الواضح أن المراد ليس ذلك، لأن القرآن المكتوب أو الملفوظ لا دوام له خارجا، فلا يمكن أن يراد من آية الحفظ وإنما المراد بالذكر هو المحكي بهذا القرآن الملفوظ أو المكتوب، وهو المنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمراد بحفظه صيانته عن التلاعب، وعن الضياع، فيمكن للبشر عامة أن يصلوا إليه، وهو نظير قولنا القصيدة الفلانية محفوظة، فإنا نريد من حفظها صيانتها، وعدم ضياعها بحيث يمكن الحصول عليها.
نعم هنا شبهة أخرى ترد على الاستدلال بالآية الكريمة على عدم التحريف. وحاصل هذه الشبهة أن مدعي التحريف في القرآن يحتمل وجود التحريف في هذه الآية نفسها، لأنها بعض آيات القرآن، فلا يكون الاستدلال بها صحيحا حتى يثبت عدم التحريف، فلو أردنا أن نثبت عدم التحريف بها كان ذلك من الدور الباطل.
وهذه شبهة تدل على عزل العترة الطاهرة عن الخلافة الإلهية، ولم يعتمد على أقوالهم وأفعالهم، فانه لا يسعه دفع هذه الشبهة، وأما من يرى أنهم حجج الله على خلقه، وأنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك فلا ترد عليه هذه الشبهة، لأن استدلال العترة بالكتاب، وتقرير أصحابهم عليه يكشف عن حجية الكتاب الموجود، وإن قيل بتحريفه، غاية الأمر أن حجية الكتاب على القول بالتحريف تكون متوقفة على إمضائهم.
الدليل الثاني قوله تعالى:
{وإنه لكتاب عزيز 41: 41. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: 42}.


ــ[210]ــ


فقد دلت هذه الآية الكريمة على نفي الباطل بجميع أقسامه عن الكتاب فإن النفي إذا ورد على الطبيعة أفاد العموم، ولا شبهة في أن التحريف من أفراد الباطل، فيجب أن لا يتطرق إلى الكتاب العزيز.
وقد أجيب عن هذا الدليل:
بأن المراد من الآية صيانة الكتاب من التناقض في أحكامه، ونفي الكذب عن أخباره، واستشهد لذلك برواية علي بن إبراهيم القمي في تفسيره عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: "لا يأتيه الباطل من قبل التوراة، ولا من قبل الإنجيل، والزبور، ولا من خلفه أي لا يأتيه من بعده بكتاب يبطله" ورواية مجمع البيان عن الصادقين (عليهم السلام) أنه: "ليس في اخباره عما مضى باطل، ولا في إخباره عما يكون في المستقبل باطل".
ويرد هذا الجواب:
أن الرواية لا تدل على حصر الباطل في ذلك، لتكون منافية لدلالة الآية على العموم، وخصوصا إذا لاحظنا الروايات التي دلت على أن معاني القرآن لا تختص بموارد خاصة، وقد تقدم بعض هذه الروايات في مبحث "فضل القرآن" فالآية دالة على تنزيه القرآن في جميع الأعصار عن الباطل بجميع أقسامه، والتحريف من أظهر أفراد الباطل فيجب أن يكون مصونا عنه، ويشهد لدخول التحريف في الباطل، الذي نفته الآية عن الكتاب أن الآية وصفت الكتاب بالعزة، وعزة الشيء تقتضي المحافظة عليه من التغيير والضياع، أما إرادة خصوص التناقض والكذب من لفظ الباطل في الآية الكريمة، فلا يناسبها توصيف الكتاب بالعزة.
التحريف والسنة:
الدليل الثالث: أخبار الثقلين اللذين خلفهما النبي (صلى الله عليه وآله) في أمته وأخبر أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وأمر الأمة بالتمسك بهما، وهما الكتاب والعترة. وهذه


ــ[211]ــ


الأخبار متظافرة من طرق الفريقين (1) والاستدلال بها على عدم التحريف في الكتاب يكون من ناحيتين:
الناحية الأولى: ان القول بالتحريف يستلزم عدم وجوب التمسك بالكتاب المنزل لضياعه على الأمة بسبب وقوع التحريف، ولكن وجوب التمسك بالكتاب باقٍ إلى يوم القيامة، لصريح أخبار الثقلين، فيكون القول بالتحريف باطلاً جزماً.
وتوضيح ذلك:
أن هذه الروايات دلت على اقتران العترة بالكتاب، وعلى أنهما باقيان في الناس إلى يوم القيامة، فلابد من وجود شخص يكون قريناً للكتاب ولابد من وجود الكتاب ليكون قريناً للعترة، حتى يردا على النبي الحوض، وليكون التمسك بهما حافظاً للأمة عن الضلال، كما يقول النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا الحديث. ومن الضروري أن التمسك بالعترة إنما يكون بموالاتهم، واتباع أوامرهم ونواهيهم والسير على هداهم، وهذا شيء لا يتوقف على الاتصال بالإمام، والمخاطبة معه شفاهاً، فإن الوصول إلى الإمام والمخاطبة معه لا يتيسر لجميع المكلفين في زمان الحضور، فضلاً عن أزمنة الغيبة، واشتراط إمكان الوصول إلى الإمام (عليه السلام) لبعض الناس دعوىً بلا برهان ولا سبب يوجب ذلك، فالشيعة في أيام الغيبة متمسكون بإمامهم يوالونه ويتبعون أوامره، ومن هذه الأوامر الرجوع إلى رواة أحاديثهم في الحوادث الواقعة، أما التمسك بالقرآن فهو أمر لا يمكن إلا بالوصول إليه، فلابد من كونه موجوداً بين الأمة، ليمكنها أن تتمسك به، لئلا تقع في الضلال، وهذا البيان يرشدنا إلى فساد المناقشة بأن القرآن محفوظ وموجود عند الإمام الغائب، فإن وجوده الواقعي لا يكفي لتمسك الأمة به.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدمت الإشارة إلى مصادر هذه الأخبار في ص 26 من هذا الكتاب.


ــ[212]ــ


وقد أشكل على هذا الدليل:
بأن أخبار الثقلين إنما تدل على نفي التحريف في آيات الأحكام من القرآن، لأنها هي التي أمر الناس بالتمسك بها، فلا تنفي وقوع التحريف في الآيات الأخرى منه.
وجوابه:
إن القرآن بجميع آياته مما أنزله الله لهداية البشر، وإرشادهم إلى كمالهم الممكن من جميع الجهات، ولا فرق في ذلك بين آيات الأحكام وغيرها، وقد قدمنا في بيان فضل القرآن أن ظاهر القرآن قصة وباطنه عظة، على أن عمدة القائلين بالتحريف يدعون وقوع التحريف في الآيات التي ترجع إلى الولاية وما يشبهها ومن البين أنها لو ثبت كونها من القرآن، لوجب التمسك بها على الأمة.
الناحية الثانية: أن القول بالتحريف يقتضي سقوط الكتاب عن الحجية، فلا يتمسك بظواهره، فلابد للقائلين بالتحريف من الرجوع إلى إمضاء الأئمة الطاهرين لهذا الكتاب الموجود بأيدينا، وإقرار الناس على الرجوع إليه بعد ثبوت تحريفه، ومعنى هذا: أن حجية الكتاب الموجود متوقفة على إمضاء الأئمة للاستدلال به، وأولى الحجتين المستقلتين اللتين يجب التمسك بهما، بل هو الثقل الأكبر، فلا تكون حجيته فرعاً على حجية الثقل الأصغر، والوجه في سقوط الكتاب عن الحجية - على القول بالتحريف - هو احتمال اقتران ظواهره بما يكون قرينة على خلافها، أما الاعتماد في ذلك على أصالة عدم القرينة فهو ساقط، فإن الدليل على هذا الأصل بناء العقلاء على اتباع الظهور، وعدم اعتنائهم باحتمال القرينة على خلافه، وقد أوضحنا في مباحث الأصول أن القدر الثابت من البناء العقلائي، هو عدم اعتناء العقلاء باحتمال وجود القرينة المنفصلة، ولا باحتمال القرينة المتصلة إذا كان سببه احتمال غفلة المتكلم عن البيان، أو غفلة السامع عن الاستفادة، أما احتمال وجود


ــ[213]ــ


القرينة المتصلة من غير هذين السببين، فإن العقلاء يتوقفون عن اتباع الظهور معه، ومثال ذلك: ما إذا ورد على إنسان كتاب ممن يجب عليه طاعته يأمره فيه بشراء دار، ووجد بعض الكتاب تالفا، واحتمل أن يكون في هذا البعض التالف بيان لخصوصيات في الدار التي أمر بشرائها من حيث السعة والضيق، أو من حيت القيمة أو المحل، فان العقلاء لا يتمسكون بإطلاق الكلام الموجود، اعتمادا على أصالة عدم القرينة المتصلة ولا يشترون أية دار امتثالا لأمر هذا الآمر، ولا يعدّون من يعمل مثل ذلك ممتثلا لأمر سيده.
ولعل القارئ يذهب به وهمه بعيدا، فيقول: إن هذا التقريب يهدم أساس الفقه، واستنباط الأحكام الشرعية، لأن العمدة في أدلتها هي الأخبار المروية عن المعصومين (عليهم السلام) ومن المحتمل أن تكون كلماتهم مقرونة بقرائن متصلة، ولم تنقل إلينا. ولو تأمل قليلا لم يستقر في ذهنه هذا التوهم، فإن المتبع في مقام الإخبار، هو ظهور كلام الراوي في عدم وجود القرينة المتصلة، فإن اللازم عليه البيان لو كان كلام المعصوم متصلا بقرينة، واحتمال غفلته عنها مدفوع بالأصل.
نعم إن القول بالتحريف يلزمه عدم جواز التمسك بظواهر القرآن، ولا يحتاج في إثبات هذه النتيجة إلى دعوى العلم الإجمالي باختلال الظواهر في بعض الآيات، حتى يجاب عنه بأن وقوع التحريف في القرآن لا يلزمه العلم الإجمالي المذكور، وبأن هذا العلم الإجمالي لا ينجز، لأن بعض أطرافه ليس من آيات الأحكام، فلا يكون له أثر في العمل، والعلم الإجمالي إنما ينجز إذا كان له أثر عملي في كل طرف من أطرافه.
وقد يدعي القائل بالتحريف: أن إرشاد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) إلى الاستدلال بظواهر الكتاب، وتقرير أصحابهم عليه قد أثبت الحجية للظواهر، وإن سقطت قبل


ــ[214]ــ


ذلك بسبب التحريف.
ولكن هذه الدعوى فاسدة، فإن هذا الإرشاد من الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وهذا التقرير منهم لأصحابهم على التمسك بظواهر القرآن، إنما هو من جهة كون القرآن في نفسه حجة مستقلة، لا أنهم يريدون إثبات الحجية له بذلك ابتداء.
ترخيص قراءة السور في الصلاة:
الدليل الرابع: انه قد أمر الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) بقراءة سورة تامة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من الفريضة، وحكموا بجواز تقسيم سورة تامة أو أكثر في صلاة الآيات، على تفصيل مذكور في موضعه.
ومن البين أن هذه الأحكام إنما ثبتت في أصل الشريعة بتشريع الصلاة وليس للتقية فيها أثر، وعلى ذلك فاللازم على القائلين بالتحريف أن لا يأتوا بما يحتمل فيه التحريف من السور، لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية. وقد يدعي القائل بالتحريف أنه غير متمكن من إحراز السورة التامة، فلا تجب عليه، لأن الأحكام إنما تتوجه إلى المتمكنين، وهذه الدعوى إنما تكون مسلمة إذا احتمل وقوع التحريف في جميع السور.
أما إذا كان هناك سورة لا يحتمل فيها ذلك كسورة التوحيد، فاللازم عليه أن لا يقرأ غيرها، ولا يمكن للخصم أن يجعل ترخيص الأئمة (عليهم السلام) للمصلي بقراءة أية سورة شاء دليلا على الاكتفاء بما يختاره من السور، وإن لم يجز الاكتفاء بها قبل هذا الترخيص بسبب التحريف، فإن هذا الترخيص من الأئمة (عليهم السلام) بنفسه دليل على عدم وقوع التحريف في القرآن وإلا لكان مستلزما لتفويت الصلاة الواجبة على المكلف بدون سبب موجب، فإن من البين أن الإلزام بقراءة السور التي يقع فيها تحريف


ــ[215]ــ


ليس فيه مخالفة للتقية، ونرى أنهم (عليهم السلام) أمرونا بقراءة سورة "القدر والتوحيد" في كل صلاة استحبابا، فأي مانع من الإلزام بهما، أو بغيرهما مما لا يحتمل وقوع التحريف فيه.
اللهم إلا أن يدعي نسخ وجوب قراءة السورة التامة إلى وجوب قراءة سورة تامة من القرآن الموجود، ولا أظن القائل بالتحريف يلتزم بذلك، لأن النسخ لم يقع بعد النبي (صلى الله عليه وآله) قطعا، وإن كان في إمكانه وامتناعه كلام بين العلماء، وهذا خارج عما نحن بصدده.
وجملة القول أنه لا ريب في أمر أهل البيت(عليهم السلام) بقراءة سورة من القرآن الذي بين أيدينا في الصلاة، وهذا الحكم الثابت من دون ريب ولا شائبة تقية إما أن يكون هو نفس الحكم الثابت في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإما أن يكون غيره، وهذا الأخير باطل لأنه من النسخ الذي لا ريب في عدم وقوعه بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وإن كان أمرا ممكنا في نفسه، فلا بد وأن يكون ذلك هو الحكم الثابت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعنى ذلك عدم التحريف. وهذا الاستدلال يجري في كل حكم شرعي، رتبه أهل البيت (عليه السلام) على قراءة سورة كاملة، أو آية تامة.
دعوى وقوع التحريف من الخلفاء:
الدليل الخامس: أن القائل بالتحريف إما أن يدعي وقوعه من الشيخين، بعد وفاة النبي (صلى عليه وآله وسلم) وإما من عثمان بعد انتهاء الأمر إليه، وإما من شخص آخر بعد انتهاء الدور الأول من الخلافة، وجميع هذه الدعاوى باطلة. أما دعوى وقوع التحريف من أبي بكر وعمر، فيبطلها انهما في هذا التحريف إما أن يكونا غير عامدين، وإنما صدر عنهما من جهة عدم وصول القرآن إليهما بتمامه، لأنه لم يكن مجموعا قبل ذلك، وإما


ــ[216]ــ


أن يكونا متعمدين في هذا التحريف، وإذا كانا عامدين فإما أن يكون التحريف الذي وقع منهما في آيات تمس بزعامتهما وإما أن يكون في آيات ليس لها تعلق بذلك، فالاحتمالات المتصورة ثلاثة:
أما احتمال عدم وصول القرآن إليهما بتمامه فهو ساقط قطعا، فإن اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله) بأمر القرآن بحفظه، وقراءته، وترتيل آياته، واهتمام الصحابة بذلك في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته يورث القطع بكون القرآن محفوظا عندهم، جمعا أو متفرقا، حفظا في الصدور، أو تدوينا في القراطيس، وقد اهتموا بحفظ أشعار الجاهلية وخطبها، فكيف لا يهتمون بأمر الكتاب العزيز، الذي عرضوا أنفسهم للقتل في دعوته، وإعلان أحكامه، وهجروا في سبيله أوطانهم، وبذلوا أموالهم، وأعرضوا عن نسائهم وأطفالهم، ووقفوا المواقف التي بيضوا بها وجه التاريخ، وهل يحتمل عاقل مع ذلك كله عدم اعتنائهم بالقرآن؟ حتى يضيع بين الناس، وحتى يحتاج في إثباته إلى شهادة شاهدين؟ وهل هذا إلا كاحتمال الزيادة في القرآن، بل كاحتمال عدم بقاء شيء من القرآن المنزل؟. على أن روايات الثقلين المتظافرة "المتقدمة" دالة على بطلان هذا الاحتمال، فإن قوله (صلى الله عليه وآله): "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي" لا يصح إذا كان بعض القرآن ضائعا في عصره، فإن المتروك حينئذ يكون بعض الكتاب لا جميعه، بل وفي هذه الروايات دلالة صريحة على تدوين القرآن، وجمعه في زمان النبي لأن الكتاب لا يصدق على مجموع المتفرقات، ولا على المحفوظ في الصدور – وسنتعرض للكلام فيمن جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) - . وإذا سلم عدم اهتمام المسلمين بجمع القرآن على عهده (صلى الله عليه وآله) فلماذا لا يهتم بذلك النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه مع اهتمامه الشديد بأمر القرآن؟ فهل كان غافلا عن نتائج هذا الإغفال، أو كان غير متمكن من الجمع، لعدم تهيؤ الوسائل عنده؟ ومن الواضح بطلان جميع ذلك. 


ــ[217]ــ


وأما احتمال تحريف الشيخين للقرآن – عمدا - في الآيات التي لا تمس بزعامتهما، وزعامة أصحابهما فهو بعيد في نفسه، إذ لا غرض لهما في ذلك، على أن ذلك مقطوع بعدمه، وكيف يمكن وقوع التحريف منهما مع أن الخلافة كانت مبتنية على السياسة، وإظهار الاهتمام بأمر الدين؟ وهلا احتج بذلك أحد الممتنعين عن بيعتهما، والمعترضين على أبي بكر في أمر الخلافة كسعد بن عبادة وأصحابه؟ وهلا ذكر ذلك أميرالمؤمنين (عليه السلام) في خطبته الشقشقية المعروفة، أو في غيرها من كلماته التي اعترض بها على من تقدمه؟ ولا يمكن دعوى اعتراض المسلمين عليهما بذلك، واختفاء ذلك عنا، فإن هذه الدعوى واضحة البطلان.
وأما احتمال وقوع التحريف من الشيخين عمدا، في آيات تمس بزعامتهما فهو أيضا مقطوع بعدمه، فإن أميرالمؤمنين (عليه السلام) وزوجته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) وجماعة من أصحابه قد عارضوا الشيخين في أمر الخلافة، واحتجوا عليهما بما سمعوا من النبي (صلى الله عليه وآله) واستشهدوا على ذلك من شهد من المهاجرين والأنصار، واحتجوا عليه بحديث الغدير وغيره، وقد ذكر في كتاب الاحتجاج: احتجاج اثنى عشر رجلا على أبي بكر في الخلافة، وذكروا له النص فيها(1)، وقد عقد العلامة المجلسي بابا لاحتجاج أميرالمؤمنين في أمر الخلافة(2)، ولو كان في القرآن شيء يمس زعامتهم لكان أحق بالذكر في مقام الاحتجاج، وأحرى بالاستشهاد عليه من جميع المسلمين، ولا سيما أن أمر الخلافة كان قبل جمع القرآن على زعمهم بكثير، ففي ترك الصحابة ذكر ذلك في أول أمر الخلافة وبعد انتهائها إلى علي (عليه السلام) دلالة قطعية على عدم التحريف المذكور.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الانوار: 28 / 189، الباب الرابع، رقم الحديث: 2.
(2) نفس المصدر: الباب الرابع.


ــ[218]ــ


وأما احتمال وقوع التحريف من عثمان فهو أبعد من الدعوى الأولى:
1 ـ لأن الإسلام قد انتشر في زمان عثمان على نحو ليس في إمكان عثمان أن ينقص من القرآن شيئا، ولا في إمكان من هو أكبر شأنا من عثمان.
2 ـ ولأن تحريفه إن كان للآيات التي لا ترجع إلى الولاية، ولا تمس زعامة سلفه بشيء، فهو بغير سبب موجب، وإن كان للآيات التي ترجع إلى شيء من ذلك فهو مقطوع بعدمه، لأن القرآن لو اشتمل على شيء من ذلك وانتشر بين الناس لما وصلت الخلافة إلى عثمان.
3 ـ ولأنه لو كان محرفا للقرآن، لكان في ذلك أوضح حجة، وأكبر عذر لقتلة عثمان في قتله علنا، ولما احتاجوا في
الاحتجاج على ذلك إلى مخالفته لسيرة الشيخين في بيت مال المسلمين، وإلى ما سوى ذلك من الحجج.
4 ـ ولكان من الواجب على علي (عليه السلام) بعد عثمان أن يرد القرآن إلى أصله، الذي كان يقرأ به في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) وزمان الشيخين ولم يكن عليه في ذلك شيء ينتقد به، بل ولكان ذلك أبلغ أثرا في مقصوده وأظهر لحجته على الثائرين بدم عثمان، ولا سيما أنه (عليه السلام) قد أمر بإرجاع القطائع التي أقطعها عثمان. وقال في خطبة له:
"والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته فان في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق"(1).
هذا أمر علي في الأموال، فكيف يكون أمره في القرآن لو كان محرفا، فيكون إمضاؤه (عليه السلام) للقرآن الموجود في عصره، دليلا على عدم وقوع التحريف فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة: الخطبة:15، فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان.


ــ[219]ــ


وأما دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء فلم يدعها أحد فيما نعلم، غير أنها نسبت إلى بعض القائلين يالتحريف، فادعى أن الحجاج لما قام بنصرة بني أمية أسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم، وزاد فيه ما لم يكن منه، وكتب مصاحف وبعثها إلى مصر، والشام، والحرمين، والبصرة، والكوفة، وإن القرآن الموجود اليوم مطابق لتلك المصاحف. وأما المصاحف الأخرى فقد جمعها ولم يبق منها شيئا ولا نسخة واحدة (1).
وهذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين، وخرافات المجانين والأطفال، إن الحجاج واحد من ولاة بني أمية، وهو أقصر باعا، وأصغر قدرا من أن ينال القرآن بشيء، بل وهو أعجز من أن يغير شيئا من الفروع الإسلامية، فيكف يغير ما هو أساس الدين، وقوام الشريعة؟ ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الاسلام وغيرها مع انتشار الاسلام فيها وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تاريخه، ولا ناقد في نقده مع ما فيه من الأهمية، وكثرة الدواعي إلى نقله، وكيف لم يتعرّض لنقله واحد من المسلمين في وقته، وكيف أغضى المسلمون عن هذا العمل بعد انقضاء عهد الحجاج، وانتهاء سلطته؟.
وهب أنه تمكن من جمع نسخ المصاحف جميعها، ولم يشذ عن قدرته نسخة واحدة من أقطار المسلمين المتباعدة، فهل تمكن من إزالته عن صدور المسلمين وقلوب حفظة القرآن؟ وعددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلا الله، على أن القرآن لو كان في بعض آياته شيء يمس بني أمية، لاهتم معاوية بإسقاطه قبل زمان الحجاج وهو أشد منه قدرة، وأعظم نفوذا، ولاستدل به أصحاب علي (عليه السلام) على معاوية، كما احتجوا عليه بما حفظه التاريخ، وكتب الحديث والكلام.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مناهل العرفان: ص 257.


ــ[220]ــ


وبما قدمناه للقارئ، يتضح له أن من يدعي التحريف يخالف بداهة العقل، وقد قيل في المثل: "حدث الرجل بما لا يليق، فإن صدق فهو ليس بعاقل".
شبهات القائلين بالتحريف:
وهنا شبهات يتشبث بها القائلون بالتحريف لابد لنا من التعرض لها ودفعها واحدة واحدة:
الشبهة الأولى:
إن التحريف قد وقع في التوراة والإنجيل، وقد ورد في الروايات المتواترة من طريقي الشيعة والسنة: أن كل ما وقع في الأمم السابقة لابد وأن يقع مثله في هذه الأمة، فمنها ما رواه الصدوق في "الإكمال" عن غياث بن إبراهيم، عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) قال:
"قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل ما كان في الأمم السالفة، فإنه يكون في هذه الأمة مثله حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة "(1).
ونتيجة ذلك: أن التحريف لابد من وقوعه في القرآن، وإلا لم يصح معنى هذه الأحاديث.
والجواب عن ذلك:
أولا: أن الروايات المشار إليها أخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملا، ودعوى التواتر فيها جزافية لا دليل عليها، ولم يذكر من هذه الروايات شيء في الكتب الأربعة، ولذلك فلا ملازمة بين وقوع التحريف في التوراة ووقوعه في القرآن.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كمال الدين: ص 576 الباب 54. وقد تقدم بعض مصادر هذا الحديث من طرق أهل السنة في ما تقدم من هذا الكتاب.


ــ[221]ــ


ثانيا: أن هذا الدليل لو تم لكان دالا على وقوع الزيادة في القرآن أيضا، كما وقعت في التوراة والإنجيل، ومن الواضح بطلان ذلك.
ثالثا: إن كثيرا من الوقائع التي حدثت في الأمم السابقة لم يصدر مثلها في هذه الأمة، كعبادة العجل، وتيه بني إسرائيل أربعين سنة، وغرق فرعون وأصحابه، وملك سليمان للإنس والجن، ورفع عيسى إلى السماء وموت هارون وهو وصي موسى قبل موت موسى نفسه، وإتيان موسى بتسع آيات بينات، وولادة عيسى من غير أب، ومسخ كثير من السابقين قردة وخنازير، وغير ذلك مما لا يسعنا إحصاؤه، وهذا أدل دليل على عدم إرادة الظاهر من تلك الروايات، فلابد من إرادة المشابهة في بعض الوجوه.
وعلى ذلك فيكفي في وقوع التحريف في هذه الأمة عدم اتباعهم لحدود القرآن، وإن أقاموا حروفه كما في الرواية التي تقدمت في صدر البحث، ويؤكد ذلك ما رواه أبو واقد الليثي: "أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم. فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبي (صلى الله عليه وآله) سبحان الله هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم" (1) فإن هذه الرواية صريحة في أن الذي يقع في هذه الأمة، شبيه بما وقع في تلك الأمم من بعض الوجوه.
رابعا: لو سلم تواتر هذه الروايات في السند، وصحتها في الدلالة، لما ثبت بها أن التحريف قد وقع فيما مضى من الزمن، فلعله يقع في المستقبل زيادة ونقيصة، والذي يظهر من رواية البخاري تحديده بقيام الساعة، فكيف يستدل بذلك على وقوع التحريف في صدر الإسلام، وفي زمان الخلفاء.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن الترمذي: 9 / 26، كتاب الفتن باب ما جاء لتركبن سنن من قبلكم رقم الحديث: 2106، ومسند أحمد: مسند الأنصار، رقم الحديث: 20892.


ــ[222]ــ


الشبهة الثانية:
أن عليا (عليه السلام) كان له مصحف غير المصحف الموجود، وقد أتى به إلى القوم فلم يقبلوا منه، وأن مصحفه (عليه السلام) كان مشتملا على أبعاض ليست موجودة في القرآن الذي بأيدينا، ويترتب على ذلك نقص القرآن الموجود عن مصحف أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وهذا هو التحريف الذي وقع الكلام فيه، والروايات الدالة على ذلك كثيرة:
منها: ما في رواية احتجاج علي (عليه السلام) على جماعة من المهاجرين والأنصار أنه قال:
"يا طلحة إن كل آية أنزلها الله تعالى على محمد (صلى عليه وآله وسلم) عندي بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخط يدي، وتأويل كل آية أنزلها الله تعالى على محمد (صلى الله عليه وآله) وكل حلال، أو حرام، أو حد أو حكم، أو شيء تحتاج إليه
الأمة إلى يوم القيامة، فهو عندي مكتوب بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخط يدي، حتى أرش الخدش..." (1).
ومنها: ما في احتجاجه (عليه السلام) على الزنديق من أنه:
"أتى بالكتاب كملا مشتملا على التأويل والتنزيل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، لم يسقط منه حرف ألف ولا لام فلم يقبلوا ذلك"(2).
ومنها: ما رواه في الكافي، بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:
"ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله، ظاهره وباطنه غير الأوصياء" (3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقدمة تفسير البرهان: 1 / 27. وفي هذه الرواية تصريح بأن ما في القرآن الموجود كله قرآن.
(2) تفسير الصافي: المقدمة السادسة ص 11.
(3) الكافي: 1 / 228، الحديث: 2.


ــ[223]ــ


وبإسناده عن جابر. قال:
"سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده (عليهم السلام)"(1).
والجواب عن ذلك:
إن وجود مصحف لأمير المؤمنين (عليه السلام) يغاير القرآن الموجود في ترتيب السور مما لا ينبغي الشك فيه، وتسالم العلماء الأعلام على وجوده أغنانا عن التكلف لإثباته، كما أن اشتمال قرآنه (عليه السلام) على زيادات ليست في القرآن الموجود، وإن كان صحيحا إلا أنه لا دلالة في ذلك على أن هذه الزيادات كانت من القرآن، وقد أسقطت منه بالتحريف، بل الصحيح أن تلك الزيادات كانت تفسيرا بعنوان التأويل، وما يؤول إليه الكلام، أو بعنوان التنزيل من الله شرحا للمراد. وإن هذه الشبهة مبتنية على أن يراد من لفظي التأويل والتنزيل ما اصطلح عليه المتأخرون من إطلاق لفظ التنزيل على ما نزل قرآنا، وإطلاق لفظ التأويل على بيان المراد من اللفظ، حملا له على خلاف ظاهره، إلا أن هذين الإطلاقين من الاصطلاحات المحدثة، وليس لهما في اللغة عين ولا أثر ليحمل عليهما هذان اللفظان "التنزيل والتأويل" متى وردا في الروايات المأثورة عن أهل البيت(عليهم السلام).
وإنما التأويل في اللغة مصدر مزيد فيه، وأصله "الأول" بمعنى الرجوع. ومنه قولهم: "أول الحكم إلى أهله أي رده اليهم". وقد يستعمل التأويل ويراد منه العاقبة، وما يؤول إليه الأمر. وعلى ذلك جرت الآيات الكريمة:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نفس المصدر.


ــ[224]ــ


{ويعلمك من تأويل الأحاديث 12: 6. نبئنا بتأويله: 36. هذا تأويل رؤياي: 100. ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا 18: 182.
وغير ذلك من موارد استعمال هذا اللفظ في القرآن الكريم، وعلى ذلك فالمراد بتأويل القرآن ما يرجع إليه الكلام، وما هو عاقبته، سواء كان ذلك ظاهرا يفهمه العارف باللغة العربية، أم كان خفيا لا يعرفه إلا الراسخون في العلم.
وأما التنزيل فهو أيضا مصدر مزيد فيه، وأصله النزول، وقد يستعمل ويراد به ما نزل، ومن هذا القبيل إطلاقه على القرآن في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:
{إنه لقرآن كريم 56: 77. في كتاب مكنون: 78. لا يمسه إلا المطهرون: 79. تنزيل من رب العالمين: 80}.
وعلى ما ذكرناه فليس كل ما نزل من الله وحيا يلزم أن يكون من القران، فالذي يستفاد من الروايات في هذا المقام أن مصحف علي (عليه السلام) كان مشتملا على زيادات تنزيلا أو تأويلا. ولا دلالة في شيء من هذه الروايات على أن تلك الزيادات هي من القرآن. وعلى ذلك يحمل ما ورد من ذكر أسماء المنافقين في مصحف أميرالمؤمنين(عليه السلام) فان ذكر أسمائهم لابد وأن يكون بعنوان التفسير.
ويدل على ذلك ما تقدم من الأدلة القاطعة على عدم سقوط شيء من القرآن، أضف إلى ذلك أن سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) مع المنافقين تأبى ذلك فإن دأبه تأليف قلوبهم، والإسرار بما يعلمه من نفاقهم، وهذا واضح لمن له أدنى اطلاع على سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وحسن أخلاقه، فكيف يمكن أن يذكر أسماءهم في القرآن، ويأمرهم بلعن أنفسهم، ويأمر سائر المسلمين ذلك ويحثهم عليه ليلا ونهارا، وهل يحتمل ذلك حتى ينظر في صحته


ــ[225]ــ


وفساده أو يتمسك في إثباته بما في بعض الروايات من وجود أسماء جملة من المنافقين في مصحف علي (عليه السلام) وهل يقاس ذلك بذكر أبي لهب المعلن بشركه، ومعاداته للنبي (صلى الله عليه وآله) مع علم النبي بأنه يموت على شركه. نعم لا بعد في ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) أسماء المنافقين لبعض خواصه كأمير المؤمنين (عليه السلام) وغيره في مجالسه الخاصة.
وحاصل ما تقدم: أن وجود الزيادات في مصحف علي (عليه السلام) وإن كان صحيحا، إلا أن هذه الزيادات ليست من القران، ومما أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتبليغه إلى الامة، فإن الالتزام بزيادة مصحفه بهذا النوع من الزيادة قول بلا دليل، مضافا إلى أنه باطل قطعا. ويدل على بطلانه جميع ما تقدم من الأدلة القاطعة على عدم التحريف في القرآن.
الشبهة الثالثة:
إن الروايات المتواترة عن أهل البيت (عليهم السلام) قد دلت على تحريف القرآن فلابد من القول به.
والجواب:
إن هذه الروايات لا دلالة فيها على وقوع التحريف في القرآن بالمعنى المتنازع فيه، وتوضيح ذلك: إن كثيرا من الروايات، وإن كانت ضعيفة السند، فإن جملة منها نقلت من كتاب أحمد بن محمد السياري، الذي اتفق علماء الرجال على فساد مذهبه، وأنه يقول بالتناسخ، ومن علي بن أحمد الكوفي الذي ذكر علماء الرجال أنه كذاب، وأنه فاسد المذهب إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين (عليهم السلام) ولا أقل من الاطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر فلا حاجة بنا إلى التكلم في سند كل رواية بخصوصها. 


ــ[226]ــ


عرض روايات التحريف:
علينا أن نبحث عن مداليل هذه الروايات، وإيضاح أنها ليست متحدة في المفاد، وأنها على طوائف. فلابد لنا من شرح ذلك والكلام على كل طائفة بخصوصها.
الطائفة الأولى: هي الروايات التي دلت على التحريف بعنوانه، وانها تبلغ عشرين رواية، نذكر جملة منها ونترك ما هو بمضمونها. وهي:
1 ـ ما عن علي بن إبراهيم القمي، بإسناده عن أبي ذر. قال:
"ما نزلت هذه الآية: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ترد أمتي علي يوم القيامة على خمس رايات. ثم ذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسأل الرايات عما فعلوا بالثقلين. فتقول الراية الأولى: أما الأكبر فحرفناه، ونبذناه وراء ظهورنا، وأما الأصغر فعاديناه، وأبغضناه، وظلمناه. وتقول الراية الثانية: أما الأكبر فحرفناه، ومزقناه، وخالفناه، وأما الأصغر فعاديناه وقاتلناه.."(1).
2 ـ ما عن ابن طاووس، والسيد المحدث الجزائري، بإسنادهما عن الحسن بن الحسن السامري في حديث طويل أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لحذيفة فيما قاله في من يهتك الحرم:
"إنه يضل الناس عن سبيل الله، ويحرف كتابه، ويغير سنتي"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار: 37 / 346، باب 55، الحديث: 3.
(2) بحار الأنوار: 98 / 352، باب 13، الحديث: 1.


ــ[227]ــ


3 ـ ما عن سعد بن عبدالله القمي، باسناده عن جبار الجعفي عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:
"دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنى فقال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين ـ أما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي ـ والكعبة البيت الحرام، ثم قال أبوجعفر(عليه السلام): أما كتاب الله فحرفوا، وأما الكعبة فهدموا، وأما العترة فقتلوا، وكل ودائع الله قد نبذوا ومنها قد تبرؤوا"(1).
4 ـ ما عن الصدوق في الخصال بإسناده عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون. المصحف، والمسجد، والعترة يقول المصحف يا رب حرفوني ومزقوني، ويقول المسجد يا رب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة يا رب قتلونا، وطردونا، وشردونا" (2).
5 ـ ما عن الكافي والصدوق، بإسنادهما عن علي بن سويد. قال:
"كتبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) وهو في الحبس كتابا إلى أن ذكر جوابه (عليه السلام) بتمامه، وفيه قوله (عليه السلام) اؤتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه" (3).
6 ـ ما عن ابن شهر آشوب، بإسناده عن عبدالله في خطبة أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء، وفيها:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار: 23 / 140، باب 7، الحديث: 91.
(2) كتاب الخصال: 1 / 174 ، باب الثلاثة، الحديث: 232.
(3) الكافي: 8 / 125، الحديث: 95.


ــ[228]ــ


"إنما أنتم من طواغيت الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرفي الكتاب"(1).
7 ـ ما عن كامل الزيارات، بإسناده عن الحسن بن عطية، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال:
"إذا دخلت الحائر فقل: اللهم العن الذين كذبوا رسلك، وهدموا كعبتك، وحرفوا كتابك.." (2).
8 ـ ما عن الحجال، عن قطبة بن ميمون، عن عبدالأعلى. قال: "قال أبوعبدالله (عليه السلام) أصحاب العربية يحرفون كلام الله عزوجل عن مواضعه".
المفهوم الحقيقي للروايات:
والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة: ان الظاهر من الرواية الأخيرة تفسير التحريف باختلاف القراء، وإعمال اجتهاداتهم في القراءات. ومرجع ذلك إلى الاختلاف في كيفية القراءة مع التحفظ على جوهر القرآن وأصله وقد أوضحنا للقارئ في صدر المبحث أن التحريف بهذا المعنى مما لا ريب في وقوعه، بناء على ما هو الحق من عدم تواتر القراءات السبع، بل ولا ريب في وقوع هذه التحريف، بناء على تواتر القراءات السبع أيضا، فإن القراءات كثيرة، وهي مبتنية على اجتهادات ظنية توجب تغيير كيفية القراءة. فهذه الرواية لا مساس لها بمراد المستدل.
وأما بقية الروايات، فهي ظاهرة في الدلالة على أن المراد بالتحريف حمل الآيات
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار: 45/ 8، باب 37 راجع تحف العقول، ما جاء عن الامام الحسين (عليه السلام).
(2) كامل الزيارات: ص 362، باب 79، الحديث: 1.


ــ[229]ــ


على غير معانيها، الذي يلازم إنكار فضل أهل البيت (عليهم السلام) ونصب العداوة لهم وقتالهم. ويشهد لذلك - صريحا - نسبة التحريف إلى مقاتلي أبي عبدالله (عليه السلام) الخطبة المتقدمة.
ورواية الكافي التي تقدمت في صدر البحث، فان الإمام الباقر (عليه السلام) يقول فيها:
"وكان من نبذهم الكتاب أنهم أقاموا حروفه، وحرفوا حدوده"(1).
وقد ذكرنا أن التحريف بهذا المعنى واقع قطعا، وهو خارج عن محل النزاع، ولولا هذا التحريف لم تزل حقوق العترة محفوظة، وحرمة النبي (صلى الله عليه وآله) فيهم مرعية، ولما انتهى الأمر إلى ما انتهى إليه من اهتضام حقوقهم وإيذاء النبي (صلى الله عليه وآله) فيهم.
الطائفة الثانية: هي الروايات التي دلت على أن بعض الآيات المنزلة من القرآن قد ذكرت فيها أسماء الأئمة (عليهم السلام) وهي كثيرة:
منها: ما ورد من ذكر أسماء الأئمة (عليهم السلام) في القرآن، كرواية الكافي بإسناده عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال:
"ولاية علي بن أبي طالب مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله رسولا إلا بنبوة محمد و"ولاية" وصيه، صلى الله عليهما وآلهما" (2).
ومنها: رواية العياشي بإسناده عن الصادق (عليه السلام).
"لو قرئ القرآن ـ كما أنزل ـ لألفينا مسمّين".
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي: 8 / 52، رقم الحديث: 16.
(2) الكافي: 1 / 437، رقم الحديث: 6، وفي المصدر "و وصية علي (عليه السلام)". 


ــ[230]ــ


ومنها: رواية الكافي، وتفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) وكنز الفوائد بأسانيد عديدة عن ابن عباس، وتفسير فرات بن إبراهيم الكوفي بأسانيد متعددة أيضا، عن الأصبغ بن نباته. قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
"القرآن نزل على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام، ولنا كرائم القرآن "(1).
ومنها: رواية الكافي أيضا بإسناده عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:
نزل جبرئيل بهذه الآية على محمد (صلى عليه وآله وسلم) هكذا: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا - في علي - فأتوا بسورة من مثله}(2).
والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة:
إنا قد أوضحنا فيما تقدم أن بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقران وليس من القرآن نفسه، فلا بد من حمل هذه الروايات على أن ذكر أسماء الأئمة (عليهم السلام) في التنزيل من هذا القبيل، وإذا لم يتم هذا الحمل فلا بد من طرح هذه الروايات لمخالفتها للكتاب، والسنة، والأدلة المتقدمة على نفي التحريف. وقد دلت الأخبار المتواترة على وجوب عرض الروايات على الكتاب والسنة وأن ما خالف الكتاب منها يجب طرحه، وضربه على الجدار.
ومما يدل على أن اسم أميرالمؤمنين (عليه السلام) لم يذكر صريحا في القرآن حديث الغدير، فانه صريح في أن النبي (صلى الله عليه وآله) إنما نصب عليا بأمر الله، وبعد أن ورد عليه التأكيد في ذلك، وبعد أن وعده الله بالعصمة من الناس، ولو كان اسم "علي" مذكورا في القرآن لم يحتج إلى ذلك النصب، ولا إلى تهيئة ذلك الاجتماع الحافل بالمسلمين، ولما خشي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي: 2 / 628 رقم الحديث: 4.
(2) الكافي: 1 / 417، رقم الحديث: 26.


ــ[231]ــ


رسول الله (صلى الله عليه وآله) من إظهار ذلك، ليحتاجإلى التأكيد في أمر التبليغ.
وعلى الجملة: فصحة حديث الغدير توجب الحكم بكذب هذه الروايات التي تقول: إن أسماء الأئمة مذكورة في القرآن ولا سيما أن حديث الغدير كان في حجة الوداع التي وقعت في أواخر حياة النبي (صلى الله عليه وآله) ونزول عامة القرآن، وشيوعه بين المسلمين، على أن الرواية الأخيرة المروية في الكافي مما لا يحتمل صدقه في نفسه، فإن ذكر اسم علي (عليه السلام) في مقام إثبات النبوة والتحدي على الإتيان بمثل القرآن لا يناسب مقتضى الحال.
ويعارض جميع هذه الروايات صحيحة أبي بصير المروية في الكافي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}(4 : 59).
"قال: فقال نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام)، فقلت له: إن الناس يقولون فما له لم يسم عليا وأهل بيته في كتاب الله. قال (عليه السلام): فقولوا لهم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله لهم ثلاثا، ولا أربعا، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي فسر لهم ذلك..." (1).
فتكون هذه الصحيحة حاكمة على جميع تلك الروايات، وموضحة للمراد منها، وأن ذكر اسم أميرالمؤمنين (عليه السلام) في تلك الروايات قد كان بعنوان التفسير، أو بعنوان التنزيل، مع عدم الأمر بالتبليغ. ويضاف إلى ذلك أن المتخلفين عن بيعة أبي بكر لم يحتجوا بذكر اسم علي في القرآن، ولو كان له ذكر في الكتاب لكان ذلك أبلغ في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي: 1 / 286، باب ما نص الله ورسوله عليهم، الحديث: 1.


ــ[232]ــ


الحجة، ولا سيما أن جمع القرآن - بزعم المستدل - كان بعد تمامية أمر الخلافة بزمان غير يسير، فهذا من الأدلة الواضحة على عدم ذكره في الآيات.
الطائفة الثانية: هي الروايات التي دلت على وقوع التحريف في القرآن بالزيادة والنقصان، وان الأمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) غيرت بعض الكلمات وجعلت مكانها كلمات أخرى.
فمنها: ما رواه علي بن ابراهيم القمي، باسناده عن حريز عن أبي عبدالله (عليه السلام):
"صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين".
ومنها: ما عن العياشي، عن هشام بن سالم. قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران}(3: 33).
"قال: هو آل إبراهيم وآل محمد على العالمين، فوضعوا اسما مكان اسم"(1). أي انهم غيروا فجعلوا مكان آل محمد آل عمران.
والجواب:
عن الاستدلال بهذه الطائفة ـ بعد الاغضاء عما في سندها من الضعف – أنها مخالفة للكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين على عدم الزيادة في القرآن ولا حرفا واحدا حتى من القائلين بالتحريف. وقد ادعى الإجماع جماعة كثيرون على عدم الزيادة في القرآن، وأن مجموع ما بين الدفتين كله من القران. وممن ادعى الإجماع الشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والشيخ البهائي، وغيرهم من الأعاظم قدس الله أسرارهم. وقد تقدمت رواية الاحتجاج الدالة على عدم الزيادة في القرآن.
الطائفة الرابعة: هي الروايات التي دلت على التحريف في القرآن بالنقيصة فقط.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير العياشي: 1 / 168، رقم الحديث: 30.


ــ[233]ــ


والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة:
إنه لا بد من حملها على ما تقدم في معنى الزيادات في مصحف أميرالمؤمنين (عليه السلام) وإن لم يمكن ذلك الحمل في جملة منها فلا بد من طرحها لأنها مخالفة للكتاب والسنة، وقد ذكرنا لها في مجلس بحثنا توجيها آخر أعرضنا عن ذكره هنا حذرا من الإطالة، ولعله أقرب المحامل، ونشير إليه في محل آخر إن شاء الله تعالى.
على أن أكثر هذه الروايات بل كثيرها ضعيفة السند. وبعضها لا يحتمل صدقه في نفسه. وقد صرح جماعة من الأعلام بلزوم تأويل هذه الروايات أو لزوم طرحها.
وممن صرح بذلك المحقق الكلباسي حيث قال على ما حكي عنه: "إن الروايات الدالة على التحريف مخالفة لإجماع الأمة إلا من لا اعتداد به… (وقال) إن نقصان الكتاب مما لا أصل له وإلا لاشتهر وتواتر، نظرا إلى العادة في الحوادث العظيمة. وهذا منها بل أعظمها".
وعن المحقق البغدادي شارح الوافية التصريح بذلك، ونقله عن المحقق الكركي الذي صنف في ذلك رسالة مستقلة، وذكر فيها: "إن ما دل من الروايات على النقيصة لا بد من تأويلها أو طرحها، فإن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب، والسنة المتواترة والإجماع، ولم يمكن تأويله، ولا حمله على بعض الوجوه، وجب طرحه ".
أقول: أشار المحقق الكركي بكلامه هذا إلى ما أشرنا إليه - سابقا - من أن الروايات المتواترة قد دلت على أن الروايات إذا خالفت القرآن لابد من طرحها. فمن تلك الروايات:
ما رواه الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بسنده الصحيح عن الصادق (عليه السلام):


ــ[234]ــ


"الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه.." (1).
وما رواه الشيخ الجليل سعيد بن هبة الله "القطب الراوندي" بسنده الصحيح إلى الصادق (عليه السلام):
"إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه..."(2).
وأما الشبهة الرابعة:
فيتلخص في كيفية جمع القرآن، واستلزامها وقوع التحريف فيه. وقد انعقد البحت الآتي "فكرة عن جمع القرآن" لتصفية هذه الشبهة وتفنيدها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل: 27 / 119، باب 9، رقم الحديث: 33368.
(2) الوسائل: 27 / 118، باب 9، رقم الحديث: 33362.